لحبيب المصطفى
غلبني فضول جارف ورغبة جامحة في فك طلاسم أحجية سلبت النوم من جفوني وقلبت سير حياتي رأسا على عقب، استنفرت كل طاقتي للغوص في بحر بلا ماء عبر موقع وكيبيديا الإلكتروني، جاءني الجواب الشافي أخيرا، الديمقراطية كلمة إغريقية قديمة مركبة من جزأين وتعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، سافرت الكلمة كثيرا عبر العصور والشعوب وهُذبت أكثر من مرة لتصبح ناضجة قابلة للتطبيق، حُكم الشعب نفسه عبر ممثلين منتخبين بإرادة جمعية حرة.
كان الفلاسفة الإغريق القدامى يعيشون ترفا فكريا وسفسطة عقدية، يُنَظِّرون للشيء ونقيضه في نفس الوقت، أسّسوا لنظرية سلطة الشعب وفي المقابل نصّبوا في كل زاوية إلها، إله الخصب والمطر إله البحر إله الحرب إله الزواج والإنجاب…، وجعلوا لكل إله وكيل أعمال وإدارة ومكوس وسدنة، ثم تربعوا إلى جانب الحكام أنصاف الآلهة والكهنة خدام المعابد صفوة المجتمع على رأس الهرم الضيق وأتبعوهم بالعسكر حماة النظام الطبقي والأغنياء بطاقة الإئثمان المفتوحة والكتاب المرتزقة أقلام السلطة وأبواقها، وفي قاع الهرم العريض افترش الفلاحون والعمال وكل المنبوذين الأرض العراء يقتسمون ما فضل من موائد السادة اللصوص، مشهد يعج بالتناقض، كيف يكون الفرد حرا وسيد قراراته وغضب الآلهة المدللة سيف مسلط على رقبته، كيف لشعب يعيش فوق صخور تسبح فوق البحر أن ينام ملء مقلتيه تاركا مصيره بيد آلهة مجنونة تقضي الليل بطوله في السُّكر والعربدة وتُمضي يومها في ابتزاز الرعية، أحمق من يقذف المطر بالحجر، وملعون مطرود من رحمة الآلهة وعطفها من يعاشر عروسه قبل أن يُدنِّس وكيل الرب هذه الزيجة، كان الشعب الإغريقي المسكين ينام على أحلام مدينة أفلاطون الفاضلة ويستيقظ على واقع مدينة سقراط الطبقية.
الديمقراطية، كل شعوب العالم رغم اختلاف ألسنتها وألوانها وتباين عقائدها ومذاهبها اجتمعت حول هذه الكلمة الطلسم، سحرها سرى في نفوس الأميين قبل المثقفين، كيف لهذه الكلمة الفضفاضة الغير قابلة مبدئيا للتنفيذ قبل تنقيحها لاحقا، التي صيغت في مجالس الترف الفكري والسفسطة العقدية اليونانية أن تصبح محور اهتمام الخاص والعام، السر بكل بساطة كامن في الأنظمة الشمولية الحاضنة لبدرة الفساد والاستبداد، ما كان ترفا فكريا أمسى مطلبا شعبيا شعار كل الحركات التصحيحية التحررية في العالم.
بالأمس القريب انبعثت معظم الشعوب العربية من أجداتها خرجت عن بكرة أبيها في مظاهرات سلمية، بنظام وانتظام أذهل العالم، تطالب بسقوط أنظمة مريضة عاجزة أبت أن تتزحزح قيد أنملة عن كراسي الحكم، خيام نُصبت وسط الساحات العامة، شعارات تمس عمق القضية ولا تسيء لأحد ومتظاهرون رجالا ونساءً من مختلف الأعمار والاتجاهات لسان حالهم واحد موحد الديمقراطية، السحر الذي سرى مفعوله في جسم الأمة العربية أخيرا، مبتدأ غايتهم تحقيق صفة مواطنين شركاء لا رعايا يلتمسون العطف، في أوطان تسع رحابة صدورها الجميع، دول يستمد حكامها شرعيتهم من صناديق الاقتراع الزجاجية الشفافة، تتساوى فيها كل مكونات المجتمع، ويخضع الجميع لقوة الحق والقانون ودساتير شعبية غير ممنوحة تربط المسؤولية بالمحاسبة، ومنتهى غايتهم قطع الصلة مبدئيا ونهائيا مع فلسفة الحكم بموجب الحق الإلهي ونظرية أنصاف الآلهة وظل الله في الأرض، فالشارع الحكيم لم يجعل العصمة المطلقة إلا في شخص الأمة مجتمعة “ما اجتمعت أمتي على ضلال ” الحديث، والكهنة في كل ملة ودين في سالف الدهر وحاضره يصنعون للناس أصناما أندادا لله يسبغون عليهم هالة التعظيم والتقديس.
تلاعب الفلاسفة والكهنة الإغريق بعقول اليونانيين قديما استعملوهم نهارا في أعمال السخرة باسم الآلهة، ونوموهم ليلا في مدنٍ فاضلةٍ موطن الأحلام اللذيذة، بنفس منطق المكر والكذب وبخلاف الهدف، ألّب سدنة وكهنة آلهة العرب الناس على بعضهم بعضا بثوا فيهم لوثة التفرقة وأيقظوا ما دفنه الزمن من فتن، وسعى الدجالون المرتزقة أقلام وأبواق الفساد عبر وسائل الإعلام المدجنة المختلفة إلى نفث سمومهم في عضد المثقفين والمفكرين والفنانين لثنيهم عن مساندة الحراك الشعبي، جندوا كل حاقد ومارق وكل مجرم وكل متسلق مستفيد من ريع الفساد، الفلسفة نَوّمت إلى حين والجهل أيقظ الدفين، نضب مداد المغرضين وبحَّت أصوات المفسدين وبارت سلع الخونة، ظلت الشعوب العربية وفية لأصل ثورتها مستميتة في الدفاع عن حقوقها.
في ليلة ليلاء غار فيها القمر، والناس نيام في مضاربهم يحلمون بمدن فاضلة، جنات الفارابي العربية المثالية كما نام قديما الإغريق حالمين بجنات أفلاطون الخيالية، استيقظ فزعا مذعورا من بقي حيا وكتب له القدر حياة أخرى ليروي كيف أفلتته مدرعات عسكر الأنظمة الفاشية الغادرة في أكبر مجازر التاريخ وحشية، نام الإغريق الأولون زمنا على دفء أكذوبة المدينة الفاضلة واستيقظوا في كل مرة أحياءً، لم يسلِّط عليهم إله البحر في أوج عربدته ومجونه مع إلهة العواصف، تسونامي تغرق صخورهم العائمة، تبيد كبيرهم وصغيرهم، ولم يزمجر إله الرعد والبرق في فورة غضبه برعوده فيُحرق الحرث والنسل، ناموا متعبين حالمين واستيقظوا سالمين، ونام العرب لأول مرة في مضاجعهم العارية تركوا بيوتهم الدافئة مفترشين الغبراء متوسدين أحلام ربيعهم العربي المزهر في مدائن الحب والسلام فدُفنوا غدرا تحت أنقاض مدن افتراضية بناها المساكين بجهد جهيد فوق رمال زاحفة صدَّقتها نفوسهم الكسيرة لتنهار فوق رؤوسهم في أول حلم.
أنصاف آلهة الإغريق استوزروا فلاسفة حكماء وكهانا عباقرة، أنامت فلسفة الخير المطلق السادرة في الخيال المبدع اللذيذ الذي تتوق إليه نفوس المتعبين الفارين من أتون يوم طويل يُحصي فيه كهنة معابد الآلهة على شعب مؤمن مخلص كل سكناته وحركاته، واستوزر مُطلقو الربوبية في المشهد العربي حجاجون جهلة، زبانية اغتصبوا عفة الطهر الذي أنقد هذه البلدان من جوع وآمنها من خوف، أجهضوا بدم بارد ابتسامة جميلة في وجه صبي يهفو في أقصى أمانيه لحذاء وقميص رياضي باسم أحد نجوم كرة القدم العالميين، خنقوا بقسوة حلما جميلا بريئا لم تكتمل معالمه بعد، كل أمل شباب وشابات خُدعوا بالشعارات البراقة للعهود العربية الجديدة فرسموا على حيطان مواقعهم الاجتماعية شكل مدنهم الفاضلة، حوّلها مُتسللوا ساعات الفجر الأولى “غيستابو” الفساد السري إلى سراب إلى ذكريات أليمة وجروح غائرة، إلى كدمات وعاهات مستديمة تُؤرخ لربيع العرب المغتصب.