مروة كريدية (كاتبة لبنانية مقيمة بالولايات المتحدة الأمريكية)
لا يوجد أسوأ من تُسلبَ حقوق البشَر في الاختيار، سواءٌ كان من يَسلب هذا الحقّ ديكتاتورٌ أو قانون جائر أو فردُ أو جماعةً أو فكرةً أو أيديولوجيّة أو معتقدٌ أو دين! إنّ جوهر الانسانيّة يَكمن في حقّ الاختيار العاري عن أيّ ضغوط مع توفير الأمن و الطمأنينة و العيش الكريم البعيد عن كل إكراه ناهيك عن القمع و التخويف. و في وَقت تعولم فيه كوكبنا و غدت المجتمعات أكثر انفتاحًا على المعلومة، و في ظلّ تغيير شامل في أدوات التواصل، تبدو الشعوب أكثر تثاقفًا و أوسع اطلاعًا على حضارات بعضها البعض، و صارت المعلومات اسرع انتشارًا بحيث لا يمكن أن يتم حجب معلومة أو تغييبها. و قد شَغلت قضية الصبية الكردية الإيرانية مهسا أميني الرأي العالمي في الآونة الأخيرة لتتحول إلى رمزٍ و عنوان يطرح جدلية اجتماعية و سياسية و دينة و ثقافيةً بامتياز. و كانت موجة من الغضب العارم قد اندلعت عقب وفاة أميني البالغة من العمر 22 عاماً في 16 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد ثلاثة أيام على اعتقالها في طهران حيث كانت بصحبة أخيها من قبل شرطة الآداب بزعم مخالفتها لقانون اللباس الصارم و شروط “الحجاب” المفروض على النساء في إيران. و منذ ذلك الحين و لم تهدأ الاحتجاجات في تحدٍّ واضح لحملة القمع الدموية من قبل قوات الشرطة، حيث شهدت المدن الإيرانية مظاهرات مناهضة للحكومة شملت اشتباكات مع قوات الأمن و إضراباً عاماً و خروج طالبات المدارس في مظاهرات رددن فيها شعارات رافضة للاضطهاد و شعارات مناوئة للنظام و على رأسه الولي الفقيه. و حول هذا الموضوع فإننا نسجل نقاط عدّة أهمها:
أولا: سارعت إيران إلى محاولة احتواء الشارع بطريقة ديكتاتورية و كاريكاتورية خشبية في آن معًا زاعمةً إن تحقيقاً خلص إلى أن أميني توفيت من مرض عضال و ليس جراء تلقيها “ضربات” في الرأس، على الرغم من قول عائلتها إن ابنتهم لم تكن تعاني من مشاكل صحية. و لكن السؤال الجوهري هو لماذا تُعتقل فتاة لمجرد لباسها؟ و هل يحق لكائن من كان أن يتدخل في حق الآدمي في اختياره؟ و كما وَقفتُ حينها مع حق المرأة في ارتداء “الحجاب” او “البوركيني” بوجه ديكتاتورية بعض العلمانيين الذين يحاولون ان يفرضوا على البشر منظورهم في شأن ما عليه أن يرتديه أو يخلعه، و كما دافعت عن حق الانسان بعدم التعرض للتنمّر و المضايقة و الاحكام المسبقة المبنية على شكله الخارجي سواء لون بشرته او طريقة لباسه او جنسه، لذلك فقد يبدو ان التدين المنحرف الذي يتخذ من فرض الخيارات على المجتمع، و متطرفي العلمانية الذين يمارسون الامر عينه وجهان لعملة واحدة، عملة امتهان الحق الآدمي في الاختيار و العيش الكريم، لذلك فمن واجبنا الأخلاقي اليوم و أكثر من أي وقت مضى تكريس مفاهيم و حقوق الآدمي بحريّة الاختيار بداية من أموره الشخصية وصولاً الى حقوقه السياسية. و بالمناسبة تحاول بعض الديكتاتوريات، و ما أكثرها في الشرق الأوسط ، أن “تتجمل” أمام الرأي العام العالمي و توَسِّع على البشر في بعض حقوقهم الاجتماعية فيما تسلبهم حقوقهم السياسية و تعاقب أشد العقاب من يتجرأ على التفكير في انتقاد “الحاكم الإله”، بيد ان الحقوق كلّ لا يتجزأ و قضية الحريّة هي حق أصيل مرتبط بكرامة الانسان. فما أهمية أي معتقد أو دين أو اي سلوك إن لم يكن نابع عن قرار حرّ و اختيار غير مقنن؟ و أي عدالة تلك التي تسلبك حقك الطبيعي في تغيير خياراتك ان اردت؟
ثانيًا: القضية الجوهرية إذن هي مسألة الحرية، فالشعوب في شرقنا – او جزء منها على الأقل– ضاقت ذرعًا بالديكتاتوريات سواء كان المستبد حاكمًا او الولي الفقيه او “الشريعة” ، لذلك لم تُفلح الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى جامعة الزهراء للبنات في طهران، و خطابه الذي ألقاه بمناسبة بداية العام الدراسي الجديد في تهدئة الأوضاع. بل قامت الطالبات بترديد هتافات “الموت للظالم” على مسمعه، فيما كانت المظاهرات تشهد تمزيق صور الخامنئي. و هو اعتراض واضح على رمزية مركزية في المعتقد الشيعي الذي يجعل من الولي الفقيه “المستبد الشرعي” الذي يتحكم في رقاب البشر.
ثالثًا: سيناريو احتواء الاحتجاجات في كل الدول الديكتاتورية يكاد ان يكون واحد، حادث يشعل الاحتجاج فتقوم “القوات الامنية” بقمها بالحديد و النار و السلاح، ثم الادعاء بفتح تحقيق “شكلي” يخلص الى تبرئة الديكتاتور ومؤسساته العسكرية، و يصاحب ذلك اتهام “قوى معادية” بالتآمر، اضافة الى قطع الاتصالات و الانترنت و حجب المواقع الالكترونية عن الشعب في ظل اعلام واحد موجه يعمد الى تلميع ما لا يمكن تلميعه و حجب الشمس بغربال! و هو ما حدث، حيث قال ابراهيم رئيسي مجدداً إن الاحتجاجات يتم تحريكها و إثارتها من قبل من وصفه بالعدو. و على الرغم من القيود المفروضة على الاتصالات و حملة الاعتقالات الواسعة في صفوف النشطاء لإعاقة التجمعات و منع خروج صور الاحداث و الاحتجاجات و القمع إلى الخارج، إلا أن المحتجين تمكنوا من ابتكار أساليب جديدة لإيصال صوتهم و رسالتهم الى العالم. و تبنوا شعار “النساء، الحياة، الحرية” و نشروا مقاطع الفيديو التي قصت السيدات فيهن شعرهن و هن يسرن في الشارع و يلوحن بحجابهن فوق رؤوسهن، إضافة الى انتشار فيديوهات القتل التي مارسته الشرطة، و غيرها الكثير من المشاهد التي تدل على الاحتقان الحقيقي الذي لا زالت الحكومة تتعاطى معه بشكلٍ دموي، مما ينذر بثورة عارمة مالم تعمد القوى الحقيقية الى تغيير جذري يلبي طموحات البشر و يحترم خياراتهم و حرياتهم.
رابعًا: لفهم سياق ما يجري الآن لا بد من الاشارة الى سلسلة الاحتجاجات التي شهدتها ايران في الخمسة عشر سنة الماضية، و الذي لا زال النظام الايراني يتعاطى معها على انها “احتجاجات عابرة” لا مطالب محقة فمنذ المظاهرات التي عرفت بـ”الثورة الخضراء” التي أعقبت انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2009 و فصول الاحتجاجات لم تهدأ في البلاد و لا زال الرؤساء المتعاقبون يرددون الكلام نفسه حيث قال حسن روحاني حول احتجاجات عام 2018 وقتها: “هذه الأحداث لا أهمية لها. و الشعب الإيراني شهد الكثير منها و تجاوزها بسهولة”، و اعتبر ان المتظاهرون يخربون أمن البلاد و ان “المسألة باتت اليوم تمس النظام و الثورة و المصالح الوطنية و الأمن القومي و استقرار إيران و المنطقة” و اتهم روحاني – كالعادة – الولايات المتحدة و إسرائيل بتحريض بعض المتظاهرين للانتقام من إيران.
خامسًا: ما حدث و ما يحدث يعكس بشكل واضح لا لبس فيه ان سلطة الحرس الثوري لا زالت كما كانت تحكم قبضتها على الشارع بشكل “بوليسي” منذ اكثر من اربعين عامًا، كما تعيد انتاج الطبقة السياسية نفسها مردِّدَةً شعاراتٍ اقل ما يُقال فيها أنها “خشبية”، و لم تنتج إلا مزيد من الازمات السياسية و العسكرية و الاقتصادية منذ بزوغ “الخمينية” و حتى الآن.
سادسًا: انها بلا شك لحظة تاريخية حاسمة في ايران و هي تُظهر بشكل واضح الرغبة العارمة لدى الشعب بالتغيير، و هو الذي يُعاني بشكل مستمر من ضغوطات حياتية اقتصادية و ثقافية، ناهيك عن خيارات قياداته السياسية التي أودت بالبلاد في دائرة العزل الدولي. لقد ضاق ذرع المواطن العاديّ البسيط بمبادئ الثورة نفسها التي عفا عليها الزمان و التي أصبحت مع مرور الوقت عبئًا على كثير من أصحابها ممن نظّروا لها و ساعدوا على إنجاحها، أما المواطن المثقف النخبوي فقد أعاد النظر في كافة المبادئ تلك و لم تعد الحكومة “الاسلامية” و “ولاية الفقيه” حلم المفكر السياسي الحداثي بقدر ما أمست طروحات الهوية و ما بعد العولمة هي الاشكاليات الحقيقية و التي تتطلب الانفتاح على العالم و الحياة بالدرجة الأولى. و في وقتٍ يرى فيه المحتجون السلميون ان مصلحة ايران تكمن بالدرجة الاولى في هذا التوجه ما زال التيار الرسمي من صقور العمائم السوداء يرى أن الصراع مع “الامبريالية ” ما زال أولى الأولويات، فيما تنظر شريحة كبيرة من ايرانيي الخارج و المنفى بحسرة كبيرة إلى ما آلت إليه أمة لعبت دورًا رياديًّا عبر العصور و قدمت للحضارة الانسانية الفنون الزاهية و الآداب المميزة فانتهى المطاف بها الى الوقوع تحت غطرسة “الولي الفقيه” و”الاتشاح بالسواد” و التراث الكربلائي المأتمي!
سابعًا: الغرب عموما و الاتحاد الاوروبي و أميركا يتعاملون بحذر حيال الملف الإيراني حاليًّا لانشغالهم بأزمات عالمية أكثر حدّة و تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا و تبادل الردع في الشرق الأقصى، علاوة على أزمة مصادر الطاقة و الغاز في العالم، مما يجعل النظام الايراني في وضعية “المرتاح” الذي يعلم ضمنا أن عمل الغرب لن يتجاوز سوى تصريحات “الشجب” الشكلية او تصعيد بعض العقوبات الاقتصادية. أما دول االمنطقة الغارقة في مشكلاتها الداخلية و الخارجية و المتضرر الأكبر من سياسيات ايران التوسعية التي تحاول تصدير “الفوضى الايرانية” عبر ميليشيات ارهابية مثل “حزب الله” و”الحشد الشعبي”؛ هذه الدول متفائلة من تلك الاحتجاجات بيد أنها قلقة في آن معًا، فحكومات تلك الدول لا يهمها احلال “الديموقراطية” في الشارع الايراني و لا الوضع الاقتصادي الداخلي و لا رفاهية الشعب، بقدر ما يهمها كفّ يد ايران عن التدخل في الدول العربية، لذلك فهي غير متسرعة في إسقاط نظام الملالي في ايران و لا مصلحة مباشرة لها في ذلك بقدر ما يهمها أداء ايران الخارجي و استراتيجيتها الأقليمة و الكفّ عن مشاريعها العدوانية و التوسعية، و هي تدرك ان المنطقة لا تحتمل مزيدا من الفوضى و التدمير إنما يجب استثمار تلك الاحتجاجات في تحويل خيارات ايران الخارجية و التفاتها الى الداخل و سحب أذرعها الممتدة بشكل علني و مخفي في معظم الدول العربية.
أخيرًا، و بعيدًا عن قلق الدول الكبرى التي لا تقلق في حقيقة الأمر إلا على “مصالحها” و أمنها و نفطها، فإن التساؤل الحقيقي يكمن حول ما إذا كانت الاحتجاجات ذو مطالب اجتماعية ام اقتصادية أم أنها ترجمة لرفض الشارع لكل خيارات المنظومة العقائدية و الثقافية التي يرتكز عليها نظام ولاية الفقيه، علما ان الجناحين المسيطرين “الاصلاحي” و”المحافظ ” من رحم الثورة “الخمينية” خرجا، و ما “الاصلاحي” الحالي إلا الابن الشرعي للحرس الثوري “المحافظ”، و الكل يدور في فلك “ولاية الفقيه” و”عصمة الامام”! و بالتحليل الدقيق فإن مكمن الفساد الفعلي في المنظومة الخمينية برمتها هو البنية العقائدية، و على الرغم من أهمية الاحتجاجات، ألا أن الباحث المُدقق في خفايا الأمور المراقب لسيرورة نماء الشعوب و تطور الحضارات، يجد أن العامل المحرك للأمم هو “الأفكار و المعتقدات” و ما السلوك الا أداة تعكس البنية الأيديولوجية لمحركه.
نعم، اليوم نشهد أحتجاجًا من نوعٍ آخر فبعد ان كانت مطالب المحتجين في الاعوام السابقة محض اقتصادية و معيشية، فقد اصبحت الاحتجاجات اليوم ثقافية حضارية تطال هويّة ايران الاسلامية و تسعى للخروج من هيمنة الملالي، و تحولت فيه الشابَّة مهسا أميني الى أيقونة حريّة تمزّق عباءة الولي الفقيه. (المصدر: إيلاف)