حسن زهار- كاتب وإعلامي جزائري، تولى رئاسة تحرير صحف جزائرية يومية وأسبوعية
لم تكن حالة الجدل الكبير التي أثارتها المتوّجة بلقب ملكة جمال الجزائر 2019، خديجة بن حمو، من ولاية أدرار الجنوبية، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى المواقع والقنوات العربية والعالمية، لتكون بمثل تلك الحدّة، لولا تزامنها مع استحضار الجزائريين الرافضين ذاك التتويج واقع “التزوير” الشامل الذي طاول مختلف نواحي حياتهم، وتحديدا في المجال السياسي، ونتائج الانتخابات بجميع أشكالها، خصوصا أن البلاد تستعد لأكثر الانتخابات الرئاسية حساسية وغموضا في تاريخها، في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة.
الحكاية التي اهتزّت لها الجزائر كلها، وامتد صداها عربيا وعالميا، أُريد لها أن تأخذ طابعا عنصريا سخيفا، حيث عمدت مواقع وقنوات محلية وأجنبية كثيرة على التساؤل ما إن كان الجزائريون عنصريين، بسبب موجة الرفض العارم نتائج هذه المسابقة، بدعوى أن الجزائريين رفضوا فوز فتاةٍ من جنوب البلاد فقط لسمرة بشرتها، بينما الحقيقة التي لا يريد كثيرون رؤيتها في اتجاه مغاير تماما، على اعتبار أن الجزائريين المسكونين بهاجس التزوير الذي يلازمهم، مثل كابوس “الجاثوم” أو “الخناقة”، يعلمون جيدا أن مهازل مسابقات الجمال عندهم منذ سنوات طويلة هي من فصيلة مهازل الانتخابات والاستفتاءات واستطلاعات الرأي المزورة، فصراع الجهات المنظمة والمتناقضة لتلك المسابقات معروف، حيث لا توجد جهة رسمية تتولى أمر هذه الفوضى، وحيث الكواليس وشراء الذمم تتحكّم في لجان التحكيم، هي نفسها تقريبا التي تسيطر على ما تسمى اللجان المستقلة وغير المستقلة التي تنشئها الحكومة عادة لمراقبة الانتخابات المحلية أو البرلمانية أو حتى الرئاسية.
نتائج مسابقة الجمال، إذن، لم تكن، بحد ذاتها، سببا لكل هذه الضجة الكبيرة، فالتزوير المنظم والشامل، وعمليات التلاعب بكل القيم والمعايير هي رأس ما حصل، ولا شيء غير ذلك، حتى وإن عزفت أبواق الفتنة الظاهرة والمستترة هنا وهناك، على أوتار الجهوية والعرقية والمناطقية، بخبثٍ شديد، تزامنا مع تنامي الدعوات العرقية إلى الفصل بين العرب والأمازيغ، بمناسبة ما تسمّى رأس السنة الأمازيغية، واقتراب موعد الرئاسيات، لضرب تلاحم الشمال الجزائري وجنوبه الكبير، وإدخال حوالي خمسة ملايين نسمة من ساكنة الجنوب، في لعبة التموقع الجديدة التي طالما فشل الناعقون فيها في إحداث أيِّ شرخٍ بين الجزائريين في الشمال وإخوانهم في الجنوب، على الرغم من أن تلك الأبواق أعادت، بطبيعة الحال، كل الأسطوانات القديمة المشروخة، وهذه حقٌّ أريد به باطل، عن الثقافة الجنوبية الأصيلة للطوارق السكان الأصليين، وعن إقصائهم عن مواقع الحكم، وعن أن ملكة الجمال الجديدة، الشابة خديجة بن حمو، تضرب جذورها إلى الملكة تنهينيان (أم الطوارق)، بما يستدعي معه طرح سؤالٍ ملغمٍ أن الجنوب الذي ظفر أخيرا بملكة للجمال، ألا يحقّ له أن يتوّج برئيس جنوبي يحكم الجزائر؟
صحيحٌ أن أهل الجنوب الجزائري يعانون ظلما بيّنا، ومن حقهم، كما أنهم مصدرٌ للتمر والبطاطس والغاز والبترول، أن يكونوا مصدرا للجمال أيضا ولا ريب، لكن الأصح أيضا أن الظلم في الجزائر موزّع على أهل الشمال والجنوب بالقسطاس المستقيم. وبالتالي، لا يمكن قبول حكاية العنصرية إلا إذا تواطأنا مع الطرح التفتيتي لوحدة الشعب، والأدلة كثيرة جدا، منها أن الجزائريين ظلوا يعربون، أكثر من عقدين، من بداية مثل هذه المسابقات في الجمال (الاصطناعي)، عن رفضهم مجمل نتائجها، حتى وإن كانت الفائزات من ذوات البشرة البيضاء، من تلمسان أو بجاية أو وهران أو العاصمة أو غيرها من مدن الشمال، فالأمر بين البارحة واليوم سيّان، لأن النتائج كانت دائما صادمة للجميع، للشماليين والجنوبيين، وحتى للأجانب، وهم يشاهدون تلك التتويجات الملفقة، فالجمال الذي يتم تتويجه دائما يكون مزيفا مزورا، لا يرقى بأي شكل في أن يتلمس، ولو بنسبٍ بسيطة، جمال المرأة الجزائرية الفاتن، بما في ذلك جمال المرأة الجنوبية نفسه، وهو ما أدّى دائما إلى سقوط “مشروعية” جميع المتوّجات بمسابقات ملكة جمال الجزائر، بدليل أن الجزائر هي البلد الوحيد الذي له أكثر من ملكة جمال في سنة واحدة، وأن “ميس ألجيريا” تتكرّر في السنة الواحدة مثنى وثلاث ورباع وربما أكثر، على الطريقة نفسها التي تجعل من الجزائر البلد الوحيد الذي ما يزال يتخبط في العهدات الرئاسية مثنى وثلاث ورباع، بينما الحديث الغامض الآن عن الخامسة أشبه بلعبة “الغميضة”.
ولذلك، ما فتئت مسابقات الجمال في الجزائر تكشف بطريقتها عن الوجه البشع للسياسة، فليست المشكلة أبدا في الشابة خديجة بن حمو التي هي جميلة بالتأكيد، لكنها ليست الأجمل في الجزائر، ولا يمكنها أن تكون كذلك، ليس بسبب لون بشرتها، كما يتوهم بعضهم، وإنما لأن معطيات الجمال المفروض أن تحدّدها
هنا لجان مختصة وغير “مضروبة” غائبة تماما. ومن يتولى اختيار المشاركات والملكات ليسوا مصممين، ولا أصحاب خبرة في المجال، وإنما يتولى عملية الاختيار رياضيون وممثلون ومغنو كباريهات، وبالنتيجة نكون أمام ملكات جمالٍ لا يختلفن عن مسؤولين وحكام تختارهم العلب السوداء في الكواليس بدلا من الشعب.
“ليست المشكلة أبداً في الشابة الجميلة خديجة بن حمو، لكنها ليست الأجمل في الجزائر” |
هذا هو المشكل الذي تعاني منه الجزائر وتعاني منه كل الدول العربية تقريبا، لأن عملية “تغييب” الجمال الحقيقي الذي تزخر به منطقتنا العربية، لا يختلف عن عملية تغييب الديمقراطية، حيث يمكن أن تتاح أدوات الاختيار الحر للشعوب المقهورة، و بالتالي ليس غريبا أن تظل دولنا العربية تحتل ذيل الترتيب العالمي في كل الميادين بما في ذلك مسابقات الجمال، و بطولات ألعاب القوى، وكرة القدم، و مسابقات الموسيقى والرسم وغيرها من الفنون، لأننا بتنا نفتقد في دولنا أدنى المعايير العالمية، بل إن الذوق العام تدهور بشكلٍ لافتٍ جرّاء السياسات الهمجية للنظم المستبدة في المنطقة، انهارت معه جميع الصور الجمالية التي كنا نعتز بها، بدايةً من صورة المرأة العربية في المخيال الجمعي، بجبروته وأنوثته الطاغية، وإلى غاية القبول بمحيطٍ وسخ، يفتقد الخضرة والورد، وتسيطر عليه أكوام القمامة.
ما حصل مع ملكة جمال الجزائر هو، بالمختصر، كل هذا التخبط العربي في محاولات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من جمالٍ حقيقيٍّ، ضاع وسط أكوام التزييف والتزوير والرّدة والتطبيع مع الأعداء، ومع البشاعة. إنها الرغبة الجامحة في استخلاص جماليات الديمقراطية والحرية والتداول على الحكم، من براثن الاستبداد والوجوه المتجهمة فوق الكراسي، والتي لا تمنح شعوبها سوى مزيد من اليأس والقنوط. وليست المشكلة هنا بين شمال الجزائر وجنوبها، ولا هي بين مغرب العالم العربي ومشرقه، بقدر ما هي بين النور والظلمة، وبين الحق والباطل، في انتظار أن ينتصر جمال المرأة وأنوثتها على حسابات السياسة ومزالقها. حينها يمكن أن نحلم بوجوهٍ تبثّ الأمل، وهي تقوم بتصريف الشأن العام، وتعيد إلى الشعر و الموسيقى و المحيط الطبيعي الرونق المفقود.